كانت تلك مشاعر طبيب ماهر وهو يرسم في مذكراته أصعب لحظات البشر في بلاد تعود ساكنوها أن يبتلعوا المصائب وأن يستوعبوا الصدمات ..عبر فيها بجلاء عن لحظات يمر بها كل شخص كتب له المرور من مستشفي نواكشوط المركزي حيث أولي محطات الآخرة في انتظار الزائرين..
لكن هل يمكن استعارتها منه في مشاهد أخري يكون المرء فيها لا جسرا للموت كما هو حال الطبيب بل هو المستهدف بها غيلة من قبل من كانوا في يوم من الأيام يرجي منهم بعد الله عز وجل أن يكون ملهما للحياة ؟؟!!
طبعا ..لا
(1)
كانت الساعة تشير إلي الرابعة والنصف زولا وكان الهاتف يرن ففي المستشفي شخص عزيز علي النفس هجرانه وقد طال انتظاره للدواء بعدما تعذر كاتب الوصفة وغاب المختص وتثاقل المداوم وعجز صغار الممرضين عن الكلام!!
سارعت إلي بوابة المستشفي طلبا لتدخل ينقذ مريضا تخلي عنه ممرضوه ،ورغبة في ركن يأوي إليه مكلوم تتقاذفه هموم المرض والضياع وتغضبه سياسة التجاهل التي تنخر أكبر مؤسسات البلاد الصحية دون وازع من أخلاق أو دين..
رفض الطلب كما هو حال العشرات ممن ضعف بهم المقام عن مزاحمة أصحاب الحظوة والجاه ،لكن الأكثر إيلاما والأشد علي النفس كان بكاء تلك العجوز (حوالي 56 سنة) عند بوابة المستشفي بعدما خرجت لشراء وصفة طبية لأبنتها الصغيرة وعجزت عن تسديد الفاتورة ومنعها رجال الأمن من العودة إلي القاعة علي الأقل للعيش إلي جانب ابنتها المريضة في انتظار قضاء الله !!!
كانت العجوز تتوسل رجال الأمن والمارة علي السواء..لم يبق يمين إلا وطرقته ولكن هيهات فالآذان قد سدت ولم تعد آهات المستضعفين تسمع في أي مكان.. كانت تبكي بصوت عال كلما سمح لصحاب سيارة فخمة بالعبور إلي الطرف الآخر أو كلما قدم شخص ما ورقة تثبت أنه جزء من المؤسسة الرسمية بشقيها الأمني والسياسي بينما كان محكوما عليها وعلي آخرين بالانتظار لساعتين وهي تناشد الواقفين عند البوابة ..بالله عليكم أرسلوا أحدكم ليتأكد أنني الوحيدة مع الصغيرة لتعلموا كم هي محتاجة إلي من يساعدها في غربتها بين أسرة المركز الوطني للإستطباب .. لكن هيهات فقد ضاعت الدموع وبحت الحناجر وسدت الآذان !!
(2)
عند قسم المسالك البولية كان المشهد الثاني ..وكانت الذكريات مريرة فقد كان آخر مرة زرت فيها المكان حينما كنت أعمل تحقيقا صحفيا عن أسرة "أهل عثمان" التي عاشت سبعة أشهر في دهاليز المركز الوطني للإستطباب دون دواء أو غذاء أو كساء إلا ما تجود به أيدي الزائرين للمرضي أو عجز الأهالي عن أكله من فضلات الطعام!!
قبل سنتين كنت أجلس في نفس المكان،لكن كنت ساعتها أستمع لقصة الأسرة ومعاناتها –التي نشرت في الأخبار- لكن أجلس هذه المرة وأنا أيضا صاحب قصة ليست بالطبع كحال "أهل عثمان" لكن من دون شك نحن في المأساة سواء ..
قبل سنتين كانت دموعي تنهال علي الخدين وأنا أستمع من والد الأسرة إلي معاناته وأري "القمل" علي كتفيه،وأستمع إلي ابنته المريضة وهي تروي قصتها مع الأطباء والكادر الإداري وكيف عاشت الأسرة كل تلك الساعات الثقيلة دون أبسط أمل في العلاج أو الخروج من النفق المظلم الذي عاشته داخل وجه موريتانيا الحضاري (مركز الإستطباب الوطني بنواكشوط).
واليوم وقد تغير المشهد بت أنا القصة ذاتها،أتجول بين المداومين أملا في طبيب يشرح لي وضعية المريض أو يكتب لي وصفة دواء أو يتحدث لكن دون جدوي ..فقد غاب "الإخصائي"،وعجز المداوم عن تشخيص الحالة رغم بدائيتها،ورفع القلم عن الممرضين فهم مجرد أرقام في المشهد لا حول لديهم ولاقوة ..إنهم تماما مثلنا ملزمون بالحضور والانتظار..
منذ مساء الخميس والمريض يتألم ،من دون وصفة دواء أو فحص طبي ،أو شرح حتى لحالته التي يعيش في انتظار حضور الطبيب المكلف بمتابعة الجراحات لكن كيف كان الحضور؟!!
عند الساعة العاشرة والنصف كان الحضور،مجرد جولة سريعة في أقبية المركز الوطني ينظر صاحبها شزرا إلي ضحايا رفاقه ولسانه حاله يقول "أمازلتم أحياء!!"..ثم يغيب عن المشهد دون شرح أو حديث مع المريض ونحن نصرخ بالله عليكم ماذا يجري ..أليس فيكم رجل رشيد؟!!
كان الطبيب "باري" يتعاطف مع المريض لكن ليس الأمر في يديه إنه يدرك أن الأمر ناجم عن احدي ثلاث
1- نقص للأملاح المعدنية
2- سوء هضم
3- احتباس للتبول
لكن الطبيب المختص وحده القادر علي تمييز الحالة والمختص فعليا بالوصفات الطبية المناسبة ..لكن متي يعود؟!!
سؤال قد تجيب عنه الإدارة إن عادت هي الأخري أو راعت أنات المرضي ومشاعر المكلومين !!